فصل: تفسير الآيات رقم (53 - 56)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الجن

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 3‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا ‏(‏1‏)‏ يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا ‏(‏2‏)‏ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا ‏(‏3‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ وكانوا تسعة من جن نصيبين‏.‏ وقيل سبعة استمعوا قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ذكرنا خبرهم في سورة الأحقاف ‏{‏فَقَالُوا‏}‏ لما رجعوا إلى قومهم ‏{‏إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بليغًا أي‏:‏ قرآنًا ذا عجب يُعجَب منه لبلاغته‏.‏ ‏{‏يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ‏}‏ يدعو إلى الصواب من التوحيد والإيمان ‏{‏فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا‏}‏ ‏{‏وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ قرأ أهل الشام والكوفة غير أبي بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏وأنه تعالى‏"‏ بفتح الهمزة وكذلك ما بعده إلى قوله ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ‏}‏ وقرأ الآخرون بكسرهن، وفتح أبو جعفر منها ‏"‏وأنه‏"‏ وهو ما كان مردودا ‏[‏إلى‏]‏ الوحي وكسر ما كان حكاية عن الجن‏.‏

والاختيار كسر الكل لأنه من قول الجن لقومهم فهو معطوف على قوله‏:‏ ‏"‏فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا‏"‏ وقالوا‏:‏ ‏"‏وأنه تعالى‏"‏‏.‏

ومن فتح ردَّه على قوله‏:‏ ‏"‏فآمنا به‏"‏ وآمنا بكل ذلك؛ ففتح ‏"‏أن‏"‏ لوقوع الإيمان عليه‏.‏

‏{‏جَدُّ رَبِّنَا‏}‏ ‏[‏جلال‏]‏ ربنا وعظمته، قاله مجاهد وعكرمة وقتادة‏.‏ يقال‏:‏ جَدَّ الرجلُ أي‏:‏ عظم، ومنه قول أنس‏:‏ كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران جَدَّ فينا أي‏:‏ عظم قدره‏.‏

وقال السدي‏:‏ ‏"‏جد ربنا‏"‏ أي أمر ربنا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ غنى ربنا‏.‏ ومنه قيل للجد‏:‏ حظ ورجل مجدود‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ قدرة ربنا‏.‏ قال الضحاك‏:‏ فعله‏.‏

وقال القرظي‏:‏ آلاؤه ونعماؤه على خلقه‏.‏

وقال الأخفش‏:‏ علا ملك ربنا ‏{‏مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَدًا‏}‏ قيل‏:‏ تعالى جل جلاله وعظمته عن أن يتخذ صاحبةً ‏[‏أو ولدًا‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4 - 6‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا ‏(‏4‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ‏(‏5‏)‏ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا‏}‏ جاهلنا قال مجاهد وقتادة‏:‏ هو إبليس ‏{‏عَلَى اللَّهِ شَطَطًا‏}‏ كذبًا وعدوانًا وهو وصفه بالشريك والولد‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ حسبنا ‏{‏أَنْ لَنْ تَقُولَ الإنْسُ وَالْجِنُّ‏}‏ قرأ يعقوب ‏"‏تقوّل‏"‏ بفتح الواو وتشديدها ‏{‏عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ أي‏:‏ كنا نظنهم صادقين في قولهم إن لله صاحبةً وولدًا حتى سمعنا القرآن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ‏}‏ وذلك أن الرجل من العرب في الجاهلية كان إذا سافر فأمسى في أرض قفر، قال‏:‏ أعوذ بسيد هذا الوادي من شر سفهاء قومه، فيبيت في أمن وجوار منهم حتى يصبح‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عبد الله بن يوسف بن أحمد بن مالك، حدثنا أبو القاسم ‏[‏عبد الرحمن‏]‏ بن محمد بن إسحاق المروزي

حدثنا موسى بن سعيد بن النعمان بطرسوس، حدثنا فروة بن أبي المغراء الكندي، حدثنا القاسم بن مالك، عن عبدالرحمن بن إسحاق، عن أبيه، عن كردم بن أبي سائب الأنصاري قال‏:‏ خرجت مع أبي إلى المدينة في حاجة وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، فآوانا المبيت إلى راعي غنم، فلما انتصف النهار جاء ذئب فأخذ حملا من الغنم، فوثب الراعي ‏[‏فقال‏]‏ يا عامر الوادي جارك فنادى منادٍ لا نراه، يقول‏:‏ يا سرحان أرسله، فأتى الحمل يشتد حتى دخل الغنم ولم تصبه كدمة فأنزل الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم بمكة ‏{‏وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا‏}‏ يعني زاد الإنسُ الجنَّ باستعاذتهم بقادتهم رهقًا‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ إثمًا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ طغيانًا‏.‏ قال مقاتل‏:‏ غيًا‏.‏ قال الحسن‏:‏ شرًا قال إبراهيم‏:‏ عظمةً وذلك أنهم كانوا يزدادون بهذا التعوذ طغيانًا يقولون‏:‏ سدنا الجن والإنس، و‏"‏الرَّهق‏"‏ في كلام العرب‏:‏ الإثم وغشيان المحارم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 9‏]‏

‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا ‏(‏7‏)‏ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا ‏(‏8‏)‏ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا‏}‏ يقول الله تعالى‏:‏ إن الجن ظنوا ‏{‏كَمَا ظَنَنْتُمْ‏}‏ يا معشر الكفار من الإنس ‏{‏أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا‏}‏ بعد موته‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا‏}‏ تقول الجن ‏{‏لَمَسْنَا السَّمَاءَ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ السماء الدنيا ‏{‏فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا‏}‏ من الملائكة ‏{‏وَشُهُبًا‏}‏ من النجوم‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا‏}‏ من السماء ‏{‏مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ‏}‏ أي‏:‏ كنا نستمع ‏{‏فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا‏}‏ أرصد له ليرمى به‏.‏

قال ابن قتيبة‏:‏ إن الرجم كان قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم يكن مثل ما كان بعد مبعثه في شدة الحراسة، وكانوا يسترقون السمع في بعض الأحوال، فلما بعث ‏[‏النبي صلى الله عليه وسلم‏]‏ منعوا من ذلك أصلا ثم قالوا‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10 - 14‏]‏

‏{‏وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ‏(‏10‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا ‏(‏11‏)‏ وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا ‏(‏12‏)‏ وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا وَلا رَهَقًا ‏(‏13‏)‏ وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ‏}‏ برمي الشهب ‏{‏أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا‏}‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ دون الصالحين ‏{‏كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا‏}‏ أي‏:‏ جماعات متفرقين وأصنافا مختلفة، والقِدَّة‏:‏ القطعة من الشيء، يقال‏:‏ صار القوم قددًا إذا اختلفت حالاتهم، وأصلها من القَدّ وهو القطع‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يعنون‏:‏ مسلمين وكافرين‏.‏

وقيل‏:‏ ‏[‏ذوو‏]‏ أهواء مختلفة، وقال الحسن والسدي‏:‏ الجن أمثالكم فمنهم قدرية ومرجئة ورافضة‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ شيعًا وفرقًا لكل فرقة هوى كأهواء الناس‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ ألوانًا شتى، وقال أبو عبيدة‏:‏ أصنافًا‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا ظَنَنَّا‏}‏ علمنا وأيقنا ‏{‏أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ لن نفوته إن أراد بنا أمرًا ‏{‏وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا‏}‏ إن طلبنا‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى‏}‏ ‏[‏القرآن وما أتى به محمد‏]‏ ‏{‏آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخَافُ بَخْسًا‏}‏ نقصانًا من عمله وثوابه ‏{‏وَلا رَهَقًا‏}‏ ظلمًا‏.‏ وقيل‏:‏ مكروهًا يغشاه‏.‏ ‏{‏وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ‏}‏ وهم الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ‏}‏ الجائرون العادلون عن الحق‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هم الذين جعلوا لله ندا، يقال‏:‏ أقسط الرجل إذا عدل فهو مسقط، وقسط إذا جار فهو قاسط ‏{‏فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا‏}‏ أي‏:‏ قصدوا طريق الحق وتوخَّوه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 17‏]‏

‏{‏وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا ‏(‏15‏)‏ وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا ‏(‏16‏)‏ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ‏}‏ الذين كفروا ‏{‏فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا‏}‏ كانوا وقود النار يوم القيامة‏.‏ ثم رجع إلى كفار مكة فقال‏:‏ ‏{‏وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ‏}‏ اختلفوا في تأويلها فقال قوم‏:‏ لو استقاموا على طريقة الحق والإيمان والهدى فكانوا مؤمنين مطيعين ‏{‏لأسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا‏}‏ كثيرًا قال مقاتل‏:‏ وذلك بعدما رفع عنهم المطر سبع سنين‏.‏ وقالوا معناه لو آمنوا لوسّعنا عليهم في الدنيا وأعطيناهم مالا كثيرًا وعيشًا رغدًا وضرب الماء الغدق مثلا لأن الخير والرزق كله في المطر، كما قال‏:‏ ‏"‏ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم‏"‏ الآية ‏(‏المائدة - 66‏]‏ وقال‏:‏ ‏"‏ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء‏"‏ الآية ‏(‏الأعراف - 96‏]‏‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ‏}‏ أي‏:‏ لنختبرهم كيف شكرهم فيما خُوِّلوا‏.‏ وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح والضحاك وقتادة ومقاتل والحسن‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناها وأن لو استقاموا على طريقة الكفر والضلالة لأعطيناهم مالا كثيرًا ولوسعنا عليهم لنفتنهم فيه، عقوبةً لهم واستدراجًا حتى يفتتنوا بها فنعذبهم، وهذا قول الربيع بن أنس وزيد بن أسلم والكلبي وابن كيسان، كما قال الله‏:‏ ‏"‏فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء‏"‏ الآية ‏(‏الأنعام - 44‏]‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ‏}‏ قرأ أهل الكوفة ويعقوب‏:‏ ‏"‏يسلكه‏"‏ بالياء وقرأ الآخرون بالنون، أي‏:‏ ندخله ‏{‏عَذَابًا صَعَدًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ شاقًا والمعنى ذا صعد أي‏:‏ ذا مشقة‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا راحة فيه‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ لا فرح فيه‏.‏ قال الحسن‏:‏ لا يزداد إلا شدة‏.‏ والأصل فيه أن الصعود يشق على ‏[‏الناس‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18 - 19‏]‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ‏(‏18‏)‏ وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ‏}‏ يعني المواضع التي بنيت للصلاة وذكر الله ‏{‏فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا‏}‏ قال قتادة‏:‏ كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله فأمر الله المؤمنين أن يخلصوا لله الدعوة إذا دخلوا المساجد وأراد بها المساجد كلها‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أراد بها البقاع كلها لأن الأرض جعلت كلها مسجدًا للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ قالت الجن للنبي صلى الله عليه وسلم كيف لنا أن ‏[‏نأتي المسجد وأن‏]‏ نشهد معك الصلاة ونحن ناءون‏؟‏ فنزلت‏:‏ ‏"‏وأن المساجد لله‏"‏‏.‏

وروي عن سعيد بن جبير أيضا‏:‏ أن المراد بالمساجد الأعضاء التي يسجد عليها الإنسان وهي سبعة‏:‏ الجبهة واليدان والركبتان والقدمان‏؟‏ يقول‏:‏ هذه الأعضاء التي يقع عليها السجود مخلوقة لله فلا تسجدوا عليها لغيره‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن العباس الحميدي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب، حدثنا علي بن الحسن الهلالي والسري بن خزيمة قالا حدثنا يعلى بن أسد، حدثنا وهيب، عن عبد الله بن طاووس، عن أبيه، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء‏:‏ الجبهة - وأشار بيده إليها - واليدين والركبتين وأطراف القدمين ولا أكف الثوب ولا الشعر‏"‏‏.‏

فإن جعلت المساجد مواضع الصلاة فواحدها مسجِد بكسر الجيم، وإن جعلتها الأعضاء فواحدها مسجَد بفتح الجيم‏.‏ ‏{‏وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ‏}‏ قرأ نافع وأبو بكر بكسر الهمزة، وقرأ الباقون بفتحها ‏"‏لما قام عبد الله‏"‏

يعني النبي صلى الله عليه وسلم ‏{‏يَدْعُوهُ‏}‏ يعني يعبده ويقرأ القرآن، ذلك حين كان يصلي ببطن نخلة ويقرأ القرآن ‏{‏كَادُوا‏}‏ يعني الجن ‏{‏يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا‏}‏ أي يركب بعضهم بعضًا ويزدحمون حرصًا على استماع القرآن‏.‏ هذا قول الضحاك ورواية عطية عن ابن عباس‏.‏

وقال سعيد بن جبير عنه‏:‏ هذا من قول النفر الذين رجعوا إلى قومهم من الجن أخبروهم بما رأوا من طاعة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم واقتدائهم به في الصلاة‏.‏

وقال الحسن وقتادة وابن زيد يعني لما قام عبد الله بالدعوة تلبدت الإنس والجن، وتظاهروا عليه ليبطلوا الحق الذي جاءهم به، ويطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن يتم نوره، ويتم هذا الأمر، وينصره على من ناوأه‏.‏

وقرأ هشام عن ابن عامر‏:‏ ‏"‏لُبدًا‏"‏ بضم اللام، وأصل ‏"‏اللبد‏"‏ الجماعات بعضها فوق بعض، ومنه سمى اللبد الذي يفرش لتراكمه، وتلبد الشعر‏:‏ إذا تراكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 23‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا ‏(‏20‏)‏ قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَدًا ‏(‏21‏)‏ قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا ‏(‏22‏)‏ إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي‏}‏ قرأ أبو جعفر وعاصم وحمزة‏:‏ ‏"‏قل‏"‏ على الأمر، وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏قال‏"‏ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏إنما أدعو ربي‏"‏ قال مقاتل‏:‏ وذلك أن كفار مكة قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لقد جئت بأمر عظيم فارجع عنه فنحن نجيرك، فقال لهم‏:‏ إنما أدعو ربي ‏{‏وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا‏}‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا‏}‏ لا أقدر أن أدفع عنكم ضرًا ‏{‏وَلا رَشَدًا‏}‏ أي لا أسوق إليكم رشدًا أي‏:‏ خيرًا يعني أن الله يملكه‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ‏}‏ لن يمنعني من أحد إن عصيته ‏{‏وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا‏}‏ ملجأ أميل إليه‏.‏ ومعنى ‏"‏الملتحد‏"‏ أي‏:‏ المائل‏.‏ قال السدي‏:‏ حرزًا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ مدخلا في الأرض مثل السِّرب‏.‏ ‏{‏إِلا بَلاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ‏}‏ ففيه الجوار والأمن والنجاة، قاله الحسن‏.‏ قال مقاتل‏:‏ ذلك الذي يجيرني من عذاب الله، يعني التبليغ‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إلا بلاغًا من الله فذلك الذي أملكه بعون الله وتوفيقه‏.‏ وقيل‏:‏ لا أملك لكم ضرًا ولا رشدًا لكن أبلغ بلاغًا من الله فإنما أنا مرسل به لا أملك إلا ما ملكت ‏{‏وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ‏}‏ ولم يؤمن ‏{‏فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 28‏]‏

‏{‏حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا ‏(‏24‏)‏ قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا ‏(‏25‏)‏ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا ‏(‏26‏)‏ إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ‏(‏27‏)‏ لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ‏}‏ يعني العذاب يوم القيامة ‏{‏فَسَيَعْلَمُونَ‏}‏ عند نزول العذاب ‏{‏مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا‏}‏ أهم أم المؤمنون‏.‏ ‏{‏قُلْ إِنْ أَدْرِي‏}‏ ‏[‏أي ما أدري‏]‏ ‏{‏أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ‏}‏ يعني العذاب وقيل القيامة ‏{‏أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا‏}‏ أجلا وغاية تطول مدتها يعني‏:‏ أن علم وقت العذاب غيب لا يعلمه إلا الله‏.‏ ‏{‏عَالِمُ الْغَيْبِ‏}‏ رفع على نعت قوله ‏"‏ربي‏"‏ وقيل‏:‏ هو عالم الغيب ‏{‏فَلا يُظْهِرُ‏}‏ لا يطلع ‏{‏عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا‏}‏ ‏{‏إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ‏}‏ إلا من يصطفيه لرسالته فيظهره على ما يشاء من الغيب لأنه يستدل على نبوته بالآية المعجزة بأن يخبر عن الغيب ‏{‏فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا‏}‏ ذكر بعض الجهات دلالة على جميعها رصدًا أي‏:‏ يجعل بين يديه وخلفه حفظة من الملائكة يحفظونه من الشياطين أن يسترقوا السمع، ومن الجن أن يستمعوا الوحي فيلقوا إلى الكهنة‏.‏

قال مقاتل وغيره‏:‏ كان الله إذا بعث رسولا أتاه إبليس في صورة مَلَك يخبره فيبعث الله من بين يديه ومن خلفه رصدًا من الملائكة يحرسونه ويطردون الشياطين، فإذا جاءه شيطان في صورة ملك أخبروه بأنه شيطان، فاحذره وإذا جاءه ملك قالوا له‏:‏ هذا رسول ربك‏.‏

‏{‏لِيَعْلَمَ‏}‏ قرأ يعقوب‏:‏ ‏"‏ليُعلم‏"‏ بضم الياء أي ليعلم الناس ‏{‏أَنْ‏}‏ الرسل ‏{‏قَدْ أَبْلَغُوا‏}‏ وقرأ الآخرون بفتح الياء أي‏:‏ ‏"‏لَيعلم‏"‏ الرسول، أن الملائكة قد أبلغوا ‏{‏رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ‏}‏ أي‏:‏ علم الله ما عند الرسل فلم يخفَ عليه شيء ‏{‏وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ أحصى ما خلق وعرف عدد ما خلق فلم يَفُتْه علم شيءٍ حتى مثاقيل الذر والخردل‏.‏ ونصب ‏"‏عددًا‏"‏ على الحال، وإن شئت على المصدر، أي عدَّ ‏[‏عدَّا‏]‏‏.‏

سورة المزمل

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 4‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ ‏(‏1‏)‏ قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا ‏(‏2‏)‏ نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا ‏(‏3‏)‏ أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا ‏(‏4‏)‏‏}‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ‏}‏ أي الملتفف بثوبه‏.‏ وأصله‏:‏ المتزملُ أدغمت التاء في الزاي ومثله المدثر، أي‏:‏ المتدثر ادغمت التاء في الدال، يقال‏:‏ تزمل وتدثر بثوبه إذا تغطى به‏.‏

وقال السدي‏:‏ أراد يا أيها النائم قم فصلِّ‏.‏

قال ‏[‏العلماء‏]‏ كان هذا الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في أول الوحي قبل تبليغ الرسالة، ثم خوطب بعد بالنبي والرسول‏.‏ ‏{‏قُمِ اللَّيْلَ‏}‏ أي للصلاة ‏{‏إِلا قَلِيلا‏}‏ وكان قيام الليل فريضة في الابتداء وبيَّن قَدْرَه فقال‏:‏ ‏{‏نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلا‏}‏ إلى الثلث‏.‏ ‏{‏أَوْ زِدْ عَلَيْهِ‏}‏ على النصف إلى الثلثين، خيَّره بين هذه المنازل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يقومون على هذه المقادير، وكان الرجل لا يدري متى ثلث الليل ومتى نصف الليل ومتى الثلثان، فكان ‏[‏الرجل‏]‏ يقوم حتى يصبح مخافة أن لا يحفظ القدرَ الواجب، واشتد ذلك عليهم حتى انتفخت أقدامهم فرحمهم الله وخفف عنهم ونسخها بقوله‏:‏ ‏"‏فاقرءوا ما تيسر من القرآن علم الله أن سيكون منكم مرضى‏"‏ الآية‏.‏ فكان بين أول السورة وآخرها سنة‏.‏

أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي، أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسن الإسفراييني، أخبرنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق الحافظ، حدثنا الحسن بن علي بن عفان، حدثنا يحيى بن بشير، حدثنا سعيد - يعني ابن أبي عروبة - حدثنا قتادة عن زرارة بن أبي أوفى عن سعيد بن هشام قال‏:‏ انطلقت إلى عائشة رضي الله عنها فقلت‏:‏ يا أم المؤمنين انبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت‏:‏ ‏[‏ألست‏]‏ تقرأ القرآن‏؟‏ قلت‏:‏ بلى، قالت‏:‏ فإن خُلق نبي الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن، قلت‏:‏ فقيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أم المؤمنين‏؟‏ قالت‏:‏ ألست تقرأ‏:‏ ‏"‏يا أيها المزمل‏"‏ قلت‏:‏ بلى، قالت‏:‏ فإن الله افترض القيام في أول هذه السورة، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها اثني عشر شهرًا في السماء، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة، فصار قيام الليل تطوعًا بعد الفريضة‏.‏

قال مقاتل وابن كيسان‏:‏ كان هذا بمكة قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثم نسخ ذلك بالصلوات الخمس‏.‏

‏{‏وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بيِّنه بيانًا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ اقرأه قراءة بيّنة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ تَرَسَّل فيه ترسلا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ تثبت فيه تثبتًا‏.‏ وعن ابن عباس أيضا‏:‏ اقرأه على هينتك ثلاث آيات أو أربعًا أو خمسًا‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عمرو بن عاصم، حدثنا همام عن قتادة قال‏:‏ سئل أنس كيف كانت قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كانت مدًا مدًا، ثم قرأ‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم، يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا آدم، حدثنا شعبة، حدثنا عمرو بن مرة قال‏:‏ سمعت أبا وائل قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن مسعود، قال‏:‏ قرأت المفصل الليلة في ركعة، فقال‏:‏ هذًّا كهذِّ الشعر‏؟‏ لقد عرفت النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرن بينهن، فذكر عشرين سورة من المفصل سورتين ‏[‏من آل حاميم‏]‏ في ‏[‏كل‏]‏ ركعة‏.‏

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد بن علي بن الحسيني الحراني فيما كتبه إليّ ‏[‏أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري‏]‏ أخبرنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن حميد الواسطي، حدثنا زيد بن أخزم، حدثنا محمد بن الفضل، حدثنا سعيد بن زيد، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله - يعني ابن مسعود - قال‏:‏ لا تنثروه نثرَ الدقل ولا تهذوه هذَّ الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة‏.‏

أخبرنا أبو جعفر أحمد بن أبي أحمد بن مثويه، أخبرنا الشريف أبو القاسم علي بن محمد علي بن الحسين الحراني فيما كتب إلي، حدثنا أبو بكر محمد بن الحسين الآجري، حدثنا أبو محمد يحيى بن محمد بن صاعد، حدثنا الحسين بن الحسن المروزي، حدثنا ابن المبارك، ح، أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة، أخبرنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث، أخبرنا أبو الحسن محمد بن يعقوب الكسائي، أخبرنا عبد الله بن محمد، أخبرنا إبراهيم بن عبد الله الخلال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن موسى بن عبيدة، عن عبد الله بن عبيدة وهو أخوه عن سهل بن سعد الساعدي قال‏:‏ بينا نحن نقرأ إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ ‏"‏الحمد لله كتاب الله واحد وفيكم الأخيار وفيكم الأحمر والأسود اقرءوا ‏[‏القرآن‏]‏ قبل أن يأتي أقوام يقرءونه، يقيمون حروفه كما يقام السهم لا يجاوز تراقيهم، يتعجلون أخره ولا يتأجلونه‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا أبو بكر محمد بن نافع البصري، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن إسماعيل بن مسلم العبدي، عن أبي المتوكل الناجي، عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة‏.‏

ورواه أبو ذر، قال‏:‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم ليلة حتى أصبح بآية ‏[‏من القرآن‏]‏ والآية‏:‏ ‏"‏إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم‏"‏ ‏[‏المائدة - 118‏)‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏5‏]‏

‏{‏إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ شديدًا‏.‏ قال الحسن‏:‏ إن الرجل ليهذّ السورة ولكن العمل بها ثقيل‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ثقيل والله فرائضه وحدوده‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ ثقيل لما فيه من الأمر والنهي والحدود‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ ثقيل بالوعد والوعيد والحلال والحرام‏.‏ وقال محمد بن كعب‏:‏ ثقيل على المنافقين‏.‏

وقال الحسين بن الفضل‏:‏ قولا خفيفًا على اللسان ثقيلا في الميزان‏.‏

قال الفراء‏:‏ ثقيل ليس بخفيف السفساف لأنه كلام ربنا‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ هو والله ثقيل مبارك، كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن هشام بن عروة عن ‏[‏أبيه‏]‏ عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ‏[‏أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم‏]‏ فقال‏:‏ يا رسول الله كيف يأتيك الوحي‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أحيانا يأتيني ‏[‏في‏]‏ مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليَّ فيفصم عني وقد وعيت ما قال وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول‏"‏‏.‏ قالت عائشة‏:‏ ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشاتي الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقًا‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏6‏]‏

‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلا ‏(‏6‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ‏}‏ أي‏:‏ ساعاته كلها وكل ساعة منه ناشئة، سميت بذلك لأنها تنشا أي‏:‏ تبدو، ومنه‏:‏ نشأتِ السحابة إذا بدت، فكل ما حدث بالليل وبدا فقد نشأ فهو ناشئ، والجمع ناشئة‏.‏

وقال ابن أبي مليكة‏:‏ سألت ابن عباس وابن الزبير عنها فقالا الليل كله ناشئة وقال سعيد بن جبير وابن زيد‏:‏ أي‏:‏ ساعة قام من الليل فقد نشأ وهو بلسان الحبش ‏[‏القيام يقال‏]‏ نشأ فلان أي‏:‏ قام‏.‏

وقالت عائشة‏:‏ الناشئة القيام بعد النوم‏.‏

وقال ابن كيسان‏:‏ هي القيام من آخر الليل‏.‏

وقال عكرمة‏:‏ هي القيام من أول الليل‏.‏

روي عن علي بن الحسين أنه كان يصلي بين المغرب والعشاء، ويقول‏:‏ هذه ناشئة الليل‏.‏ وقال الحسن‏:‏ كل صلاة بعد العشاء الآخرة فهي ناشئة من الليل‏.‏

وقال الأزهري‏:‏ ‏"‏ناشئة الليل‏"‏ قيام الليل، مصدر جاء على فاعلة كالعافية بمعنى العفو‏.‏

‏{‏هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا‏}‏ قرأ ابن عامر ‏[‏وأبو عمرو‏]‏ وطاء بكسر الواو ممدودًا بمعنى المواطأة والموافقة، يقال‏:‏ واطأت فلانًا مواطأة ووطئًا، إذا وافقته، وذلك أن مواطأة القلب والسمع والبصر واللسان بالليل تكون أكثر مما يكون بالنهار‏.‏

وقرأ الآخرون‏:‏ ‏[‏وَطْئًا‏]‏ بفتح الواو وسكون الطاء، أي‏:‏ أشد على المصلي وأثقل من صلاة النهار لأن الليل للنوم والراحة، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اللهم اشدد وطأتك على مضر‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ كانت صلاتهم أول الليل هي أشد وطا يقول هي أجدر أن تحصوا ما فرض الله عليكم من القيام، وذلك أن الإنسان إذا نام لم يدر متى يستيقظ‏.‏

وقال قتادة‏:‏ أثبت في الخير وأحفظ للقراءة‏.‏

وقال الفراء‏:‏ أثبت قيامًا أي‏:‏ أوطأ للقيام وأسهل للمصلي من ساعات النهار لأن النهار خلق لتصرف العباد، والليل للخلوة فالعبادة فيه أسهل‏.‏ وقيل‏:‏ أشد نشاطًا‏.‏

وقال ابن زيد‏:‏ أفرغ له قلبًا من النهار لأنه لا تعرض له حوائج‏.‏

وقال الحسن‏:‏ أشد وطأ للخير وأمنع من الشيطان‏.‏

‏{‏وَأَقْوَمُ قِيلا‏}‏ وأصوب قراءة وأصح قولا لهدأة الناس وسكون الأصوات‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ أبين قولا بالقرآن‏.‏

وفي الجملة‏:‏ عبادة الليل أشدُّ نشاطًا وأتم إخلاصًا وأكثر بركةً وأبلغ في الثواب ‏[‏من عبادة النهار‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏7‏]‏

‏{‏إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلا‏}‏ أي‏:‏ تصرفًا وتقلبًا وإقبالا وإدبارًا في حوائجك وأشغالك، وأصل ‏"‏السبح‏"‏ سرعة الذهاب، ومنه السباحة في الماء وقيل‏:‏ ‏"‏سبحا طويلا‏"‏ أي‏:‏ فراغًا وسعة لنومك وتصرفك في حوائجك فصلِّ من الليل‏.‏

وقرأ يحيى بن يعمر ‏"‏سبخًا‏"‏ بالخاء المعجمة أي‏:‏ استراحة وتخفيفًا للبدن، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة، وقد دعت على سارق‏:‏ ‏"‏لا تُسَبِّخي عنه بدعائك عليه‏"‏ ‏[‏أي‏:‏ لا تخففي‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 14‏]‏

‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا ‏(‏8‏)‏ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا ‏(‏9‏)‏ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا ‏(‏10‏)‏ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا ‏(‏11‏)‏ إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالا وَجَحِيمًا ‏(‏12‏)‏ وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏13‏)‏ يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ‏}‏ بالتوحيد والتعظيم ‏{‏وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا‏}‏ قال ابن عباس وغيره‏:‏ أخلص إليه إخلاصًا‏.‏ وقال الحسن‏:‏ اجتهد‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ تفرغ لعبادته‏.‏ قال سفيان‏:‏ توكل عليه توكلا‏.‏ وقيل‏:‏ انقطع إليه في العبادة انقطاعًا وهو الأصل في الباب، يقال‏:‏ تبتلت الشيء أي‏:‏ قطعته وصدقةٌ بتةٌ‏:‏ أي‏:‏ مقطوعة عن صاحبها لا سبيل له عليها والتبتيل‏:‏ ‏[‏التقطيع‏]‏ تفعيل منه يقال‏:‏ بتلته فتبتل، والمعنى‏:‏ بتّل نفسك إليه، ولذلك قال‏:‏ تبتيلا‏.‏ قال زيد بن أسلم‏:‏ التبتل رفض الدنيا وما فيها والتماس ما عند الله تعالى‏.‏ ‏{‏رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ‏}‏ قرأ أهل الحجاز، وأبو عمرو وحفص‏:‏ ‏"‏ربُّ‏"‏ برفع الباء على الابتداء، وقرأ الآخرون بالجر على نعت الرب في قوله‏:‏ ‏"‏واذكر اسم ربك‏"‏ ‏{‏لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا‏}‏ قيّمًا بأمورك ففوضها إليه‏.‏ ‏{‏وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلا‏}‏ نسختها آية القتال‏.‏ ‏{‏وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلا‏}‏ نزلت في صناديد قريش المستهزئين‏.‏ وقال مقاتل بن حيان‏:‏ نزلت في المطعمين ببدر ولم يكن إلا يسير حتى قتلوا ببدر‏.‏ ‏{‏إِنَّ لَدَيْنَا‏}‏ عندنا في الآخرة ‏{‏أَنْكَالا‏}‏ قيودًا عظامًا لا تنفك أبدًا واحدها نكل‏.‏ قال الكلبي‏:‏ أغلالا من حديد ‏{‏وَجَحِيمًا‏}‏ ‏{‏وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ‏}‏ غير سائغة يأخذ بالحق لا ينزل ولا يخرج وهو الزقوم والضريع‏.‏ ‏{‏وَعَذَابًا أَلِيمًا‏}‏ ‏{‏يَوْمَ تَرْجُفُ الأرْضُ وَالْجِبَالُ‏}‏ أي‏:‏ تتزلزل وتتحرك ‏{‏وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلا‏}‏ رملا سائلا‏.‏ قال الكلبي‏:‏ هو الرمل الذي إذا أخذت منه شيئا تبعك ما بعده، يقال أهلت الرمل أهيله هيلا إذا حركت أسفله حتى انهال من أعلاه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 20‏]‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا ‏(‏15‏)‏ فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا ‏(‏16‏)‏ فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا ‏(‏17‏)‏ السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا ‏(‏18‏)‏ إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا ‏(‏19‏)‏ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوه عنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولا‏}‏‏.‏

‏{‏فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلا‏}‏، شديدًا ثقيلا يعني عاقبناه عقوبة غليظة يخوف كفار مكة‏.‏ ‏{‏فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ‏}‏ أي‏:‏ كيف لكم بالتقوى يوم القيامة إذ كفرتم في الدنيا يعني لا سبيل لكم إلى التقوى إذا وافيتم يوم القيامة‏؟‏ وقيل‏:‏ معناه كيف تتقون العذاب يوم القيامة وبأي شيء تتحصنون منه إذا كفرتم‏؟‏ ‏{‏يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا‏}‏ شمطًا من هوله وشدته، ذلك حين يقال لآدم قم فابعث بعث النار من ذريتك‏.‏ ثم وصف هول ذلك اليوم فقال‏:‏ ‏{‏السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ‏}‏ متشقق لنزول الملائكة به أي‏:‏ بذلك المكان‏.‏ وقيل‏:‏ الهاء ترجع إلى الرب أي‏:‏ بأمره وهيبته ‏{‏كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولا‏}‏ كائنًا‏.‏ ‏{‏إِنَّ هَذِهِ‏}‏ أي‏:‏ آيات القرآن ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ تذكير وموعظة ‏{‏فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلا‏}‏ بالإيمان والطاعة‏.‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى‏}‏ أقل من ‏{‏ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ‏}‏ قرأ أهل مكة والكوفة‏:‏ ‏"‏نصفَهُ وثلثَهُ‏"‏ بنصب الفاء والثاء وإشباع الهاءين ضمًا أي‏:‏ وتقوم نصفه وثلثه وقرأ الآخرون بجر الفاء والثاء وإشباع الهاءين كسرًا عطفًا على ثلثي ‏{‏وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ‏}‏ يعني المؤمنين وكانوا يقومون معه ‏{‏وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ‏}‏ قال عطاء‏:‏ يريد لا يفوته علم ما تفعلون، أي أنه يعلم مقادير الليل والنهار فيعلم القدر الذي تقومون من الليل ‏{‏عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ‏}‏ قال الحسن‏:‏ قاموا حتى انتفخت أقدامهم، فنزل‏:‏ ‏"‏علم أن لن تحصوه‏"‏ لن تطيقوا معرفة ذلك‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان الرجل يصلي الليل كله، مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فقال‏:‏ علم أن لن تحصوه لن تطيقوا معرفة ذلك‏.‏ ‏{‏فَتَابَ عَلَيْكُمْ‏}‏ فعاد عليكم بالعفو والتخفيف ‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ‏}‏ يعني في الصلاة، قال الحسن‏:‏ يعني في صلاة المغرب والعشاء‏.‏

قال قيس بن أبي حازم‏:‏ صليت خلف ابن عباس بالبصرة فقرأ في أول ركعة بالحمد وأول آية من البقرة ‏[‏ثم قام في الثانية فقرأ بالحمد والآية الثانية من البقرة‏]‏ ثم ركع فلما انصرف أقبل علينا فقال‏:‏ إن الله عز وجل يقول‏:‏ فاقرءوا ما تيسر ‏[‏منه‏]‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أبو منصور السمعاني، حدثنا أبو جعفر الرياني، حدثنا حميد بن زنجويه، حدثنا عثمان بن أبي صالح، حدثنا ابن لهيعة، حدثني حميد بن مخراق، عن أنس بن مالك أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏من قرأ خمسين آية في يوم أو في ليلة لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب من القانتين، ومن قرأ مائتي آية لم يحاجه القرآن يوم القيامة، ومن قرأ خمسمائة آية كتب له قنطار من الأجر‏"‏‏.‏

أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر، أخبرنا عبد الغافر بن محمد، أخبرنا محمد بن عيسى، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان، حدثنا مسلم بن الحجاج، حدثني القاسم بن زكريا حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان، عن يحيى ‏[‏بن كثير‏]‏ عن محمد ‏[‏عبد الله‏]‏ بن عبد الرحمن مولى بني زهرة عن أبي سلمة عن عبد الله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏اقرأ القرآن في كل شهر‏"‏ قال قلت‏:‏ إني أجد قوة، قال‏:‏ ‏"‏فاقرأه في ‏[‏كل‏]‏ عشرين ليلة‏"‏ قال قلت‏:‏ إني أجد قوة، قال‏:‏ ‏"‏فاقرأه في كل سبع ولا تزد على ذلك‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ‏}‏ يعني المسافرين للتجارة يطلبون من رزق الله ‏{‏وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ لا يطيقون قيام الليل‏.‏

روى إبراهيم عن ابن مسعود قال‏:‏ أيما رجل جلب شيئًا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرًا محتسبًا فباعه بسعر يومه كان عند الله بمنزلة الشهداء ثم قرأ عبد الله‏:‏ ‏"‏وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله‏"‏ ‏[‏يعني المسافرين للتجارة يطلبون رزق الله‏]‏ ‏"‏وآخرون يقاتلون في سبيل الله‏"‏‏.‏

‏{‏فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ أي ‏[‏ما تيسر عليكم‏]‏ من القرآن‏.‏ ‏[‏قال أهل التفسير‏]‏ كان هذا في صدر الإسلام ثم نسخ بالصلوات الخمس، وذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ يريد ما سوى الزكاة من صلة الرحم، وقرى الضيف‏.‏ ‏{‏وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوه، عنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا‏}‏ تجدوا ثوابه في الآخرة أفضل مما أعطيتم ‏{‏وَأَعْظَمَ أَجْرًا‏}‏ من الذي أخرتم ولم تقدموه، ونصب ‏"‏خيرا وأعظم‏"‏ على المفعول الثاني، فإن الوجود إذا كان بمعنى الرؤية يتعدى إلى مفعولين، وهو فصل في قول البصريين وعماد في قول الكوفيين لا محل لها في الإعراب‏.‏

أخبرنا أبو القاسم يحيى بن علي الكشميهني، أخبرنا أبو نصر أحمد بن علي البخاري بالكوفة، أخبرنا أبو القاسم نصر بن أحمد الفقيه بالموصل، حدثنا أبو يعلى الموصلي، حدثنا أبو خيثمة، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد قال‏:‏ قال عبد الله‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه‏"‏‏؟‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال ارثه‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏اعلموا ما تقولون‏"‏ قالوا‏:‏ ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله، قال ‏[‏‏:‏ ‏"‏ما منكم رجل إلا مال وارثه أحب إليه من ماله‏"‏ قالوا‏:‏ كيف يا رسول الله‏؟‏ قال‏]‏ ‏"‏إنما مال أحدكم ما قدم ومال وارثه ما أخره‏"‏‏.‏

‏{‏وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ‏}‏ لذنوبكم ‏{‏إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏‏.‏

سورة المدثر

مكية

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏[‏‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ‏}‏‏]‏، أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا يحيى، حدثنا وكيع، عن علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير قال‏:‏ سألت أبا سلمة ‏[‏بن‏]‏ عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏يا أيها المدثر‏"‏ قلت‏:‏ يقولون‏:‏ ‏"‏اقرأ باسم ربك الذي خلق‏"‏ ‏[‏العلق - 1‏]‏ فقال أبو سلمة‏:‏ سألت جابر بن عبد الله عن ذلك، فقلت له مثل الذي قلت، فقال جابر‏:‏ لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال‏:‏ ‏"‏جاورت بحراء فلما قضيت جواري هبطت، فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا ونظرت أمامي فلم أر شيئًا ونظرت خلفي فلم أر شيئًا فرفعت رأسي فرأيت شيئًا فأتيت خديجة فقلت‏:‏ دثروني وصبوا علي ماء باردًا ‏[‏قال‏]‏ فدثروني وصبوا علي ماء باردًا قال فنزلت‏:‏ ‏"‏يا أيها المدثر قم فأنذر وربك فكبر‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا عبد الله بن يوسف، حدثنا الليث، عن عقيل قال ابن شهاب‏:‏ سمعت أبا سلمة قال‏:‏ أخبرني جابر بن عبد الله‏:‏ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي‏:‏ ‏"‏فبينا أنا أمشي سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض، فخشيت حتى هويت على الأرض، فجئت أهلي فقلت‏:‏ زملوني زملوني ‏[‏فزملوني‏]‏ فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏يا أيها المدثر قم فأنذر‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏فاهجر‏"‏ قال أبو سلمة‏:‏ والرجز الأوثان، ثم حمي الوحي وتتابع‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏2 - 4‏]‏

‏{‏قُمْ فَأَنْذِرْ ‏(‏2‏)‏ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ‏(‏3‏)‏ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ‏(‏4‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ‏}‏ أي‏:‏ أنذر كفار مكة‏.‏ ‏{‏وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ‏}‏ عظمه عما يقوله عبدة الأوثان‏.‏ ‏{‏وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ‏}‏ قال قتادة ومجاهد‏:‏ نفسك فطهر ‏[‏عن الذنب‏]‏ فكنى عن النفس بالثوب، وهو قول إبراهيم والضحاك والشعبي والزهري‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ سئل ابن عباس عن قوله‏:‏ ‏"‏وثيابك فطهر‏"‏ فقال‏:‏ لا تلبسها على معصية ولا على غدر، ثم قال‏:‏ أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي‏:‏

وإني بحمد الله لا ثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع

والعرب تقول في وصف الرجل بالصدق والوفاء‏:‏ إنه طاهر الثياب، وتقول لمن غدر‏:‏ إنه لدنس الثياب‏.‏ وقال أبي بن كعب‏:‏ لا تلبسها على غدر ولا على ظلم ولا إثم، البسها وأنت بر ‏[‏جواد‏]‏ طاهر‏.‏

وروى أبو روق عن الضحاك معناه‏:‏ وعملك فأصلح‏.‏

قال السدي‏:‏ يقال للرجل إذا كان صالحًا‏:‏ إنه لطاهر الثياب، وإذا كان فاجرًا إنه لخبيث الثياب‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ وقلبك ونيتك فطهر‏.‏ وقال الحسن والقرظي‏:‏ وخلقك فحسّنْ‏.‏

وقال ابن سيرين وابن زيد‏:‏ أمر بتطهير الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها وذلك أن المشركين ‏[‏كانوا‏]‏ لا يتطهرون ولا يطهرون ثيابهم‏.‏

وقال طاووس‏:‏ وثيابك فقصر لأن تقصير الثياب طهرة لها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5 - 6‏]‏

‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ‏(‏5‏)‏ وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ‏(‏6‏)‏‏}‏

‏{‏وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ‏}‏ قرأ أبو جعفر وحفص ‏[‏عن عاصم‏]‏ ويعقوب‏:‏ ‏"‏والرجز‏"‏ بضم الراء، وقرأ الآخرون بكسرها وهما لغتان ومعناهما واحد‏.‏ قال مجاهد وعكرمة وقتادة والزهري وابن زيد وأبو سلمة‏:‏ المراد بالرجز الأوثان، قال‏:‏ فاهجرها ولا تقربها‏.‏

وقيل‏:‏ الزاي فيه منقلبة عن السين والعرب تعاقب بين السين والزاي لقرب مخرجهما ودليل هذا التأويل قوله‏:‏ ‏"‏فاجتنبوا الرجس من الأوثان‏"‏ ‏[‏الحج - 30‏]‏‏.‏

وروي عن ابن عباس أن معناه‏:‏ اترك المآثم‏.‏

وقال أبو العالية والربيع‏:‏ ‏"‏الرُّجز‏"‏ بضم الراء‏:‏ الصنم، وبالكسر‏:‏ النجاسة والمعصية‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ يعني الشرك‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني العذاب‏.‏

ومجاز الآية‏:‏ اهجر ما أوجب لك العذاب من الأعمال‏.‏ ‏{‏وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ‏}‏ أي‏:‏ لا تعطِ مالكَ مصانعةً لتُعطى أكثر منه، هذا قول أكثر المفسرين قال الضحاك ومجاهد‏:‏ كان هذا للنبي صلى الله عليه وسلم خاصة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ هما رباءان حلال وحرام، فأما الحلال فالهدايا وأما الحرام فالربا‏.‏ قال قتادة‏:‏ لا تعط شيئًا طمعًا لمجازاة الدنيا يعني أعط لربك وأردْ به اللهَ‏.‏ وقال الحسن‏:‏ معناه لا تمنن على الله بعملك فتستكثره، قال الربيع‏:‏ لا تكثرن عملك في عينك فإنه فيما أنعم الله عليك وأعطاك قليل‏.‏ وروى خَصيف عن مجاهد‏:‏ ولا تضعفْ أن تستكثر من الخير، من قولهم‏:‏ حبل متين إذا كان ضعيفًا دليله‏:‏ قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏"‏ولا تمنن أن تستكثر‏"‏ قال ‏[‏ابن‏]‏ زيد معناه‏:‏ لا تمنن بالنبوة على الناس فتأخذ عليها أجرًا أو عرضًا من الدنيا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏7 - 12‏]‏

‏{‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ ‏(‏7‏)‏ فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ‏(‏8‏)‏ فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ‏(‏9‏)‏ عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ‏(‏10‏)‏ ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ‏(‏11‏)‏ وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا ‏(‏12‏)‏‏}‏

‏[‏‏{‏وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ‏}‏ قيل‏:‏ فاصبر على طاعته وأوامره ونواهيه لأجل ثواب الله‏.‏ قال مجاهد‏:‏ فاصبر لله على ما أوذيت‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏‏]‏ معناه حملت أمرًا عظيمًا محاربة العرب والعجم فاصبر عليه لله عز وجل‏.‏ وقيل‏:‏ فاصبر تحت موارد القضاء لأجل الله‏.‏ ‏{‏فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ‏}‏ أي‏:‏ نفخ في الصور، وهو القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل، يعني النفخة الثانية‏.‏ ‏{‏فَذَلِكَ‏}‏ يعني النفخ في الصور ‏{‏يَوْمَئِذ‏}‏ يعني يوم القيامة ‏{‏يَوْمٌ عَسِيرٌ‏}‏ شديد‏.‏ ‏{‏عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يعسر فيه الأمر عليهم ‏{‏غَيْرُ يَسِيرٍ‏}‏ غير هين‏.‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا‏}‏ أي‏:‏ خلقته في بطن أمه وحيدا فريدا لا مال له ولا ولد‏.‏ نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي، كان يسمى الوحيد في قومه‏.‏ ‏{‏وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُودًا‏}‏ أي‏:‏ كثيرًا‏.‏ قيل‏:‏ هو ما يمد بالنماء كالزرع والضرع والتجارة‏.‏ واختلفوا في مبلغه، قال مجاهد وسعيد بن جبير‏:‏ ألف دينار‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أربعة آلاف دينار‏.‏ وقال سفيان الثوري‏:‏ ألف ألف ‏[‏دينار‏]‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ تسعة آلاف مثقال فضة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره شتاءً ولا صيفًا‏.‏ وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ كان له بين مكة والطائف إبل وخيل ونَعَم ‏[‏وغنم‏]‏ وكان له عير كثيرة وعبيد وجوارٍ‏.‏ وقيل‏:‏ مالا ممدودًا غلة شهر بشهر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13 - 17‏]‏

‏{‏وَبَنِينَ شُهُودًا ‏(‏13‏)‏ وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ‏(‏14‏)‏ ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ‏(‏15‏)‏ كَلا إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا ‏(‏16‏)‏ سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَنِينَ شُهُودًا‏}‏ حصورًا بمكة لا يغيبون عنه وكانوا عشرة، قاله مجاهد وقتادة‏.‏ وقال مقاتل‏:‏ كانوا سبعة وهم الوليد بن الوليد وخالد وعمارة وهشام والعاص وقيس وعبد شمس، أسلم منهم ‏[‏ثلاثة‏]‏ خالد وهشام و‏[‏عمارة‏]‏‏.‏ ‏{‏وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا‏}‏ أي‏:‏ بسطت له في العيش وطول العمر بسطًا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ يعني المال بعضه على بعض كما يمهد الفرش‏.‏ ‏{‏ثُمَّ يَطْمَعُ‏}‏ يرجو ‏{‏أَنْ أَزِيدَ‏}‏ أي أن أزيده مالا وولدًا وتمهيدًا‏.‏ ‏{‏كَلا‏}‏ لا أفعل ولا أزيده، قالوا‏:‏ فما زال الوليد بعد نزول هذه الآية في نقصان من ماله وولده حتى هلك‏.‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيدًا‏}‏ معاندًا‏.‏ ‏{‏سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا‏}‏ سأكلفه مشقة من العذاب لا راحة له فيها‏.‏

وروينا عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الصعود جبل من نار يتصعد فيه ‏[‏الكافر‏]‏ سبعين خريفًا ثم يهوي‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، أخبرنا منجاب بن الحارث، أخبرنا شريك، عن عمار الدهني، عن عطية، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏"‏سأرهقه صعودًا‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏هو جبل في النار من نار يكلف أن يصعده فإذا وضع يده ذابت ‏[‏فإذا رفعها عادت فإذا وضع رجله ذابت وإذا رفعها عادت‏]‏ ‏"‏

وقال الكلبي‏:‏ ‏"‏الصعود‏"‏ صخرة ملساء في النار يكلف أن يصعدها لا يترك أن يتنفس في صعوده، ويجذب من أمامه بسلاسل من حديد، ويضرب من خلفه بمقامع من حديد، فيصعدها في أربعين عامًا فإذا بلغ ذروتها أحدر إلى أسفلها ثم يكلف أن يصعدها ويجذب من أمامه ويضرب من خلفه فذلك دأبه أبدًا ‏[‏أبدًا‏]‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ‏}‏ الآيات، وذلك أن الله تعالى لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏"‏المصير‏"‏ ‏[‏غافر‏:‏ 1 - 3‏]‏ قام النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد والوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلما فطن النبي صلى الله عليه وسلم لاستماعه لقراءته ‏[‏القرآن‏]‏ أعاد قراءة الآية، فانطلق الوليد حتى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال‏:‏ ‏[‏والله‏]‏ لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه ‏[‏لمثمر‏]‏ وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو وما يُعلى، ثم انصرف إلى منزله فقالت قريش‏:‏ ‏[‏سحره محمد‏]‏ ‏[‏صبأ والله الوليد، والله لتصبون قريش كلهم، وكان يقال للوليد‏:‏ ريحانة قريش‏]‏ فقال لهم أبو جهل‏:‏ أنا أكفيكموه فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينًا، فقال له الوليد‏:‏ مالي أراك حزينًا يا ابن أخي‏؟‏ قال‏:‏ وما يمنعني أن لا أحزن وهذه قريش يجمعون لك النفقة يعينونك على كبر سنك ويزعمون أنك زيَّنت كلام محمد وتدخل على ابن أبي كبشة، وابن أبي قحافة، لتنال من فضل طعامهم فغضب الوليد، فقال‏:‏ ألم تعلم قريش أني من أكثرهم مالا وولدًا، وهل شبع محمد وأصحابه من الطعام فيكون لهم فضل من الطعام‏؟‏ ثم قام مع أبي جهل حتى أتى مجلس قومه، فقال لهم‏:‏ تزعمون أن محمدًا مجنون، فهل رأيتموه يخنق قط‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهم لا قال‏:‏ تزعمون أنه كاهن فهل رأيتموه قط تكهن‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهم لا قال‏:‏ تزعمون أنه شاعر فهل رأيتموه ينطق بشعر قط‏؟‏ قالوا‏:‏ اللهم لا قال‏:‏ تزعمون أنه كذاب فهل جربتم عليه شيئًا من الكذب‏؟‏ قالوا‏:‏ لا - وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى الأمين قبل النبوة، من صدقه - فقالت قريش للوليد‏:‏ فما هو‏؟‏ فتفكر في نفسه ثم نظر ثم عبس، فقال‏:‏ ما هو إلا ساحر، أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله ومواليه وولده‏؟‏ فهو ساحر وما يقوله سحر يؤثر فذلك قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ فَكَّرَ‏}‏ في محمد والقرآن ‏{‏وَقَدَّرَ‏}‏ في نفسه ماذا يمكنه أن يقول في محمد والقرآن‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 26‏]‏

‏{‏فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏19‏)‏ ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ‏(‏20‏)‏ ثُمَّ نَظَرَ ‏(‏21‏)‏ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ ‏(‏22‏)‏ ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ‏(‏23‏)‏ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ‏(‏24‏)‏ إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ ‏(‏25‏)‏ سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَقُتِلَ‏}‏ لعن، وقال الزهري‏:‏ عُذّب، ‏{‏كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ على طريق التعجب والإنكار والتوبيخ‏.‏ ‏{‏ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ‏}‏ كرره للتأكيد، وقيل‏:‏ معناه لعن على أي حال قدر من الكلام، كما يقال لأضربنه كيف صنع أي على أي حالٍ صنع‏.‏ ‏{‏ثُمَّ نَظَرَ‏}‏ في طلب ما يدفع به القرآن ويرده‏.‏ ‏{‏ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ‏}‏ كلح وقطب وجهه ونظر بكراهية شديدة كالمهتم المتفكر في شيء‏.‏ ‏{‏ثُمَّ أَدْبَرَ‏}‏ عن الإيمان ‏{‏وَاسْتَكْبَرَ‏}‏ تكبر حين دعي إليه‏.‏ ‏{‏فَقَالَ إِنْ هَذَا‏}‏ ما هذا الذي يقرؤه محمد ‏{‏إِلا سِحْرٌ يُؤْثَرُ‏}‏ يروى ويحكى عن السحرة‏.‏ ‏{‏إِنْ هَذَا إِلا قَوْلُ الْبَشَرِ‏}‏ يعني يسارًا وجبرًا فهو يأثره عنهما‏.‏ وقيل‏:‏ يرويه عن مسيلمة صاحب اليمامة‏.‏ قال الله تعالى ‏{‏سَأُصْلِيه‏}‏ سأدخله ‏{‏سَقَرَ‏}‏ وسقر اسم من أسماء جنهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 30‏]‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ ‏(‏27‏)‏ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ ‏(‏28‏)‏ لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ‏(‏29‏)‏ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ‏}‏ أي لا تبقي ولا تذر فيها شيئًا إلا أكلته وأهلكته‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ لا تميت ولا تحيي يعني لا تبقي من فيها حيًا ولا تذر من فيها ميتًا كلما احترقوا جُدِّدوا‏.‏ وقال السدي‏:‏ لا تبقي لهم لحمًا ولا تذر لهم عظمًا‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إذا أخذت فيهم لم تبق منهم شيئًا وإذا أعيدوا لم تذرهم حتى تفنيهم ولكل شيء ملالة وفترة إلا لجهنم‏.‏ ‏{‏لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ‏}‏ مغيرة للجلد حتى تجعله أسود، يقال‏:‏ لاحه السقم والحزن إذا غيره، وقال مجاهد‏:‏ تلفح الجلد حتى تدعه أشد سوادًا من الليل‏.‏ وقال ابن عباس وزيد بن أسلم‏:‏ محرقة للجلد‏.‏ وقال الحسن وابن كيسان‏:‏ تلوح لهم جهنم حتى يروها عيانًا نظيره قوله‏:‏ ‏"‏وبرزت الجحيم للغاوين‏"‏ ‏[‏الشعراء - 91‏]‏ و ‏{‏لَوَّاحَة‏}‏ رفع على نعت ‏"‏سقر‏"‏ في قوله‏:‏ ‏"‏وما أدراك ما سقر‏"‏ و ‏"‏البَشَر‏"‏ جمع بشرة وجمع البشر أبشار‏.‏ ‏{‏عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ‏}‏ ‏[‏أي‏:‏ على‏]‏ النار تسعة عشر من الملائكة، وهم خزنتها‏:‏ مالك ومعه ثمانية عشر‏.‏ وجاء في الأثر‏:‏ أعينهم كالبرق الخاطف، وأنيابهم كالصياصي، يخرج لهب النار من أفواههم، ما بين منكبي أحدهم مسيرة سنة، نزعت منهم الرحمة، يرفع أحدهم سبعين ألف فيرميهم حيث أراد من جهنم‏.‏

قال عمرو بن دينار‏:‏ إن واحدًا منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنم أكثر من ربيعة ومضر‏.‏

قال ابن عباس، وقتادة، والضحاك‏:‏ لما نزلت هذه الآية قال أبو جهل لقريش‏:‏ ثكلتكم أمهاتكم، أسمع ابن أبي كبشة يخبر أن خزنة النار تسعة عشر وأنتم الدَّهم، أي‏:‏ الشجعان، أفيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من خزنة جهنم قال أبو ‏[‏الأشد‏]‏ أسيد بن كلدة بن خلف الجمحي‏:‏ أنا أكفيكم منهم سبعة عشر، عشرة على ظهري وسبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين‏.‏

وروي أنه قال‏:‏ أنا أمشي بين أيديكم على الصراط فأدفع عشرة بمنكبي الأيمن وتسعة بمنكبي

الأيسر في النار ونمضي فندخل الجنة‏.‏ فأنزل الله عز وجل ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً‏}‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31 - 34‏]‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ وَمَا هِيَ إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ ‏(‏31‏)‏ كَلا وَالْقَمَرِ ‏(‏32‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ‏(‏33‏)‏ وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلا مَلائِكَةً‏}‏ لا رجالا آدميين، فمن ذا يغلب الملائكة‏؟‏ ‏{‏وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ‏}‏ أي عددهم في القلة ‏{‏إِلا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا‏}‏ أي ضلالة لهم حتى قالوا ما قالوا ‏{‏لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ‏}‏ لأنه مكتوب في التوراة والإنجيل أنهم تسعة عشر، ‏{‏وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا‏}‏ يعني من آمن من أهل الكتاب يزدادون تصديقًا بمحمد صلى الله عليه وسلم إذا وجدوا ما قاله موافقًا لما في كتبهم ‏{‏وَلا يَرْتَابَ‏}‏ ولا يشك ‏{‏الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ‏}‏ في عددهم ‏{‏وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ‏}‏ شك ونفاق ‏{‏وَالْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏مشركو مكة‏]‏ ‏{‏مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلا‏}‏ أي شيء أراد بهذا الحديث‏؟‏ وأراد بالمثل الحديث نفسَه‏.‏ ‏{‏كَذَلِكَ‏}‏ أي كما أضل الله من أنكر عدد الخزنة وهدى من صدق كذلك ‏{‏يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ هذا جواب أبي جهل حين قال‏:‏ أما لمحمد أعوان إلا تسعة عشر‏؟‏ قال عطاء‏:‏ ‏{‏وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلا هُوَ‏}‏ يعني من الملائكة الذين خلقهم لتعذيب أهل النار، لا يعلم عدتهم إلا الله، والمعنى إن تسعة عشر هم خزنة النار، ولهم من الأعوان والجنود من الملائكة ما لا يعلم إلا الله عز وجل، ثم رجع إلى ذكر سقر فقال‏:‏ ‏{‏وَمَا هِيَ‏}‏ يعني ‏[‏سقر‏]‏ ‏{‏إِلا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ‏}‏ إلا تذكرة وموعظة للناس‏.‏ ‏{‏كَلا وَالْقَمَرِ‏}‏ هذا قسم، يقول‏:‏ حقا‏.‏ ‏{‏وَالْقَمَرِ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ‏}‏ قرأ نافع وحمزة وحفص ويعقوب ‏"‏إذ‏"‏ بغير ألف، ‏"‏أدبر‏"‏ بالألف، وقرأ الآخرون ‏"‏إذا‏"‏ بالألف ‏"‏دبر‏"‏ بلا ألف، لأنه أشد موافقة لما يليه، وهو قوله‏:‏ ‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ‏}‏ ولأنه ليس في القرآن قسم بجانبه إذ وإنما بجانب الإقسام إذا ‏[‏ودبر وأدبر‏]‏ كلاهما لغة، يقال‏:‏ دبر الليل وأدبر إذا ولى ذاهبًا‏.‏ قال أبو عمرو‏:‏ دبر لغة قريش، وقال قطرب‏:‏ دبر أي أقبل، تقول العرب‏:‏ دبرني فلان أي جاء خلفي، فالليل يأتي خلف النهار‏.‏

‏{‏وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ‏}‏ أضاء وتبين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏35 - 39‏]‏

‏{‏إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ ‏(‏35‏)‏ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ ‏(‏36‏)‏ لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ ‏(‏37‏)‏ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ‏(‏38‏)‏ إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّهَا لإحْدَى الْكُبَرِ‏}‏ يعني أن سقر لإحدى الأمور العظام، وواحد الكبر‏:‏ كبرى، قال مقاتل والكلبي‏:‏ أراد بالكُبَر‏:‏ دركات جهنم، وهي سبعة‏:‏ جنهم، ولظى، والحطمة، والسعير، وسقر، والجحيم، والهاوية‏.‏ ‏{‏نَذِيرًا لِلْبَشَرِ‏}‏ يعني النار نذيرًا للبشر، قال الحسن‏:‏ والله ما أنذر الله بشيء أدهى منها، وهو نصب على القطع من قوله‏:‏ ‏"‏لإحدى الكبر‏"‏ لأنها معرفة، و‏"‏نذيرا‏"‏ نكرة، قال الخليل‏:‏ النذير مصدر كالنكير، ولذلك وصف به المؤنث، وقيل‏:‏ هو من صفة الله سبحانه وتعالى، مجازه‏:‏ وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة نذيرًا للبشر أي إنذارًا لهم‏.‏ قال أبو رزين يقول أنا لكم منها نذير، فاتقوها‏.‏ وقيل‏:‏ هو صفة محمد صلى الله عليه وسلم معناه‏:‏ يا أيها المدثر قم نذيرًا للبشر، ‏[‏فأنذر‏]‏ وهذا معنى قول ابن زيد‏.‏ ‏{‏لِمَنْ شَاءَ‏}‏ بدل من قوله ‏"‏للبشر‏"‏ ‏{‏مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ‏}‏ في الخير والطاعة ‏{‏أَوْ يَتَأَخَّرَ‏}‏ عنها في الشر والمعصية، والمعنى‏:‏ أن الإنذار قد حصل لكل واحد ممن آمن أو كفر‏.‏ ‏{‏كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ‏}‏ مرتهنة في النار بكسبها مأخوذة بعملها‏.‏ ‏{‏إِلا أَصْحَابَ الْيَمِينِ‏}‏ فإنهم لا يرتهنون بذنوبهم في النار ولكن يغفرها الله لهم‏.‏ قال قتادة‏:‏ علق الناس كلهم إلا أصحاب اليمين‏.‏ واختلفوا فيهم‏:‏ روي عن علي رضي الله عنه أنهم أطفال المسلمين‏.‏

وروى أبو ظبيان عن ابن عباس‏:‏ هم الملائكة‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ هم أصحاب الجنة الذين كانوا على يمين آدم يوم الميثاق، حين قال الله لهم‏:‏ هؤلاء في الجنة ولا أبالي‏.‏ وعنه أيضا‏:‏ هم الذين أعطوا كتبهم بأيمانهم، وعنه أيضا‏:‏ هم الذين كانوا ميامين على أنفسهم‏.‏

وقال الحسن‏:‏ هم المسلمون المخلصون‏.‏ وقال ‏[‏القاسم‏]‏ كل نفس مأخوذة بكسبها من خير أو شر إلا من اعتمد على الفضل، وكل من اعتمد على الكسب فهو رهين به، ومن اعتمد على الفضل فهو غير مأخوذ به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40 - 48‏]‏

‏{‏فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏40‏)‏ عَنِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏41‏)‏ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ ‏(‏42‏)‏ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ‏(‏43‏)‏ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ‏(‏44‏)‏ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ ‏(‏45‏)‏ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ ‏(‏46‏)‏ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ ‏(‏47‏)‏ فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ المشركين‏.‏ ‏{‏مَا سَلَكَكُمْ‏}‏ أدخلكم ‏{‏فِي سَقَرَ‏}‏ فأجابوا ‏{‏قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ‏}‏ ‏[‏لله‏]‏ ‏{‏وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوض‏}‏ في الباطل ‏{‏مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ‏}‏ ‏{‏حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ‏}‏ وهو الموت‏.‏ قال الله عز وجل ‏{‏فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ تشفع الملائكة والنبيون والشهداء والصالحون وجميع المؤمنين، فلا يبقى في النار إلا أربعة، ثم تلا ‏"‏قالوا لم نك من المصلين‏"‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏بِيَوْمِ الدِّينِ‏}‏ قال عمران بن الحصين‏:‏ الشفاعة نافعة لكل واحد دون هؤلاء الذين تسمعون‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أحمد بن الحسن الحيري، أخبرنا حاجب بن أحمد الطوسي، حدثنا محمد بن حماد، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف أهل النار فيعذبون قال‏:‏ ‏"‏فيمر فيهم الرجل من أهل الجنة فيقول الرجل منهم يا فلان قال فيقول‏:‏ ما تريد فيقول‏:‏ أما تذكر رجلا سقاك شربة يوم كذا وكذا‏؟‏ قال فيقول‏:‏ وإنك لأنت هو‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم، فيشفع له فيُشفع فيه‏.‏ قال‏:‏ ثم يمر بهم الرجل من أهل الجنة فيقول‏:‏ يا فلان، فيقول‏:‏ ما تريد‏؟‏ فيقول‏:‏ أما تذكر رجلا وهب لك وضوءًا يوم كذا وكذا‏؟‏ فيقول‏:‏ إنك لأنت هو‏؟‏ فيقول‏:‏ نعم فيشفع له فيُشفع فيه‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏49 - 52‏]‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ ‏(‏49‏)‏ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ ‏(‏50‏)‏ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ ‏(‏51‏)‏ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ‏}‏ مواعظ القرآن ‏{‏معرضين‏}‏ نصب على الحال، وقيل صاروا معرضين‏.‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ‏}‏ جمع حمار ‏{‏مُسْتَنْفِرَةٌ‏}‏ قرأ أهل المدينة والشام بفتح الفاء، وقرأ الباقون بكسرها، فمن قرأ بالفتح فمعناها منفرة مذعورة، ومن قرأ بالكسر فمعناها نافرة، يقال‏:‏ نفر واستنفر بمعنى واحد، كما يقال عجب واستعجب‏.‏ ‏{‏فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ‏}‏ قال مجاهد وقتادة والضحاك‏:‏ ‏"‏القسورة‏"‏‏:‏ الرماة، لا واحد لها من لفظها، وهي رواية عطاء عن ابن عباس، وقال سعيد بن جبير‏:‏ هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ ‏[‏هم‏]‏ رجال أقوياء، وكل ضخم شديد عند العرب‏:‏ قسور وقسورة‏.‏ وعن أبي المتوكل قال‏:‏ هي لغط القوم وأصواتهم‏.‏ وروى عكرمة عن ابن عباس قال‏:‏ هي حبال الصيادين‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ هي الأسد، وهو قول عطاء والكلبي، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه‏.‏

قال عكرمة‏:‏ هي ظلمة الليل، ويقال لسواد أول الليل قسورة‏.‏ ‏{‏بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً‏}‏ قال المفسرون‏:‏ إن كفار قريش قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلمك ليصبح عند رأس كل رجل منا كتاب منشور من الله أنك لرسوله نؤمر فيه باتباعك‏.‏

قال الكلبي‏:‏ إن المشركين قالوا‏:‏ يا محمد بلغنا أن الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا عند رأسه ذنبه وكفارتهُ فَأْتِنَا بمثل ذلك ‏"‏والصحف‏"‏ الكتب، وهي جمع الصحيفة، و‏"‏منشَّرة‏"‏ منشورة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 56‏]‏

‏{‏كَلا بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ ‏(‏53‏)‏ كَلا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ ‏(‏54‏)‏ فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ‏(‏55‏)‏ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏كَلا‏}‏ لا يؤتون الصحف‏.‏ وقيل‏:‏ حقًا، وكل ما ورد عليك منه فهذا وجهه، ‏{‏بَلْ لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ‏}‏ أي لا يخافون عذاب الآخرة، والمعنى أنهم لو خافوا النار لما اقترحوا هذه الآيات بعد قيام الأدلة‏.‏ ‏{‏كَلا‏}‏ حقا ‏{‏إِنَّه‏}‏ يعني القرآن ‏{‏تَذْكِرَةٌ‏}‏ موعظة‏.‏ ‏{‏فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ‏}‏ اتعظ به‏.‏ ‏{‏وَمَا يَذْكُرُونَ‏}‏ قرأ نافع ويعقوب ‏[‏تذكرون‏]‏ بالتاء والآخرون بالياء ‏{‏إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ إلا أن يشاء الله لهم الهدى‏.‏ ‏{‏هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ أي أهل أن يتقى محارمه وأهل أن يغفر لمن اتقاه‏.‏

أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا ابن فنجويه، حدثنا عمر بن الخطاب، حدثنا عبد الله بن الفضل، حدثنا هدبة بن خالد، حدثنا سهيل بن أبي حزم، عن ثابت، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية‏:‏ ‏{‏هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ‏}‏ قال‏:‏ قال ربكم عز وجل‏:‏ ‏"‏أنا أهل أن أتقى ولا يشرك بي غيري، وأنا أهل لمن اتقى أن يشرك بي أن أغفر له‏"‏ وسهيل هو ابن عبد الرحمن القطعي، أخو حزم القطعي‏.‏